إن الإنسان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل - وهو قول حق - إنه أفضل من الملائكة. والإنسان فضله إنما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات، ولذلك لا بد من معرفة هذا العقل، وبالتالي لا بد من معرفة التفكير، ولا بد من معرفة طريقة التفكير، لأن هذا الواقع المسمى بالتفكير هو الذي يجعل للعقل قيمته، وهو الذي يعطي هذه الثمرات اليانعة، التي بها تصلح الحياة، ويصلح الإنسان، بل يصلح الكون كله بما فيه من كل شيء، حتى الجماد والنبات والحيوان.
إن العلوم والفنون، والأدب والفلسفة، والفقه واللغة، والمعرفة من حيث هي معرفة، إنما هي نتاج العقل وبالتالي نتاج التفكير. لذلك كان لزاما للإنسان وللحياة وللكون كله أن يُدْرَكَ واقع العقل ما هو، وأن يدرك بالتالي واقع التفكير، وطريقة التفكير.
لقد قطعت الإنسانية هذه المسافة الطويلة من الحياة، ومن عمر الزمن وهي تعنى أكثر ما تعنى بنتاج العقل، وبنتاج التفكير دون أن تعني نفسها بواقع العقل وبواقع التفكير. صحيح أنه قد وجد من يحاول إدراك واقع العقل من علماء المسلمين، ومن علماء غير مسلمين، في القديم والحديث، ولكنهم أخفقوا في إدراك هذا الواقع. ووجد من يحاول رسم طريقة للتفكير، ولكنهم وقد نجحوا في نواحٍ من ثمرات هذه الطريقة بالمنجزات العلمية، ولكنهم ضُلّلوا عن معرفة التفكير من حيث هو تفكير، وضللوا غيرهم من المقلدين الذين بهرهم هذا النجاح العلمي. ومن قبل، منذ أيام اليونان ومَن بعدهم، اندفعوا في الوصول إلى التفكير فوصلوا إلى ما يسمى بالمنطق، ونجحوا في الوصول إلى بعض الأفكار، ولكنهم أفسدوا المعرفة من حيث هي معرفة، فكان المنطق وبالاً على المعرفة بدل أن يكون - كما أريد له - سبيلاً للوصول إليها ومقياسا لصحتها. وأيضاً فإن هؤلاء الذين اندفعوا في الوصول إلى التفكير، قد وصلوا أيضاً إلى ما يسمى بالفلسفة، أو ما يعرف بحب الحكمة، والتعمق فيما وراء الوجود، أي ما وراء المادة، فأوجدوا بحثاً لذيذ المعرفة لذيذ النتائج، ولكنه كان بعيداً عن الواقع، بعيداً عن الصدق، فكان أن أبعد عن الحقيقة وبعد عن الواقع، فضلل الكثيرين، وانحرف بالتفكير عن جادة الصواب.
|