لقد ساد التنوع الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة لحظة قيامها، فقد وجد فيها المهاجرون والأنصار، وكان من رعاياها العربي وغير العربي، والمسلم واليهودي والمشرك، والأوس والخزرج على ما بينهم من عداوة سابقة. وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم أسس العلاقة بين أطياف هذا المجتمع الوليد فيما سمي بوثيقة المدينة، ثم توسعت الدولة الإسلامية لتشمل الجزيرة العربية كلها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوسعت في رقعة أكبر بكثير في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم في زمن الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، فازداد بذلك التنوع في الدولة الإسلامية حيث دخل الناس في الإسلام أرسالاً من قبائل وشعوب شتى، وخضع لسلطان دولة الخلافة أصحاب أديان كثيرة لم تكن معروفة في جزيرة العرب، على ما في جميع هؤلاء من اختلاف في العرق واللون واللغة والثقافة والدين. وكان الغالب في العلاقة بينهم وفي علاقتهم مع الدولة والسلطان الانسجام والتوافق وحسن المعاشرة، ولم تعرف الدولة الإسلامية ولا المجتمع الإسلامي مفهوم الأقليات طوال عهدهما الممتد عبر قرون وقرون من الزمان، إلا ما كان من تسرب هذا المفهوم من الغرب بتخطيط وتدبير من الدول الغربية الطامعة في بلاد المسلمين في أواخر عهود الدولة العثمانية. فالدول الغربية الاستعمارية استغلت عامل القوة المتمثل في التنوع الكثير السائد في الدولة العثمانية وحولته إلى عامل ضعف لضرب الدولة الإسلامية وتفتيتها والقضاء عليها وذلك بنشر مفهوم الأقليات من ناحية فكرية وبتبني بعض «الأقليات» مادياً ومعنوياً وعسكرياً وتحريضها على الخروج على الدولة العثمانية. وقد ركزت أول الأمر على الشعوب الأوروبية الواقعة تحت سلطان الدولة الإسلامية في البلقان واليونان وغيرهما من المناطق فأثارت فيهم النزعات القومية والرغبات الانفصالية وأمدتهم بالسلاح والدعم للخروج على هذه الدولة، وعلى النصارى إذ أخذت تتصل بهم محاولة إقناعهم بظلم واقع عليهم من قبل المسلمين ودولتهم وبنقص في حقوقهم، وهكذا تدخلت في شؤون الدولة العثمانية بحجة حماية الأقلية الدينية النصرانية بوصفها امتداداً لهذه الدول من الناحية الدينية. وظلت هذه الدول سائرة في هذه المسألة حتى استطاعت أن تفتت الدولة العثمانية وتثير فيها الفتن والعداوات إلى أن انتهى الأمر بالقضاء عليها واستعمار أغلب أراضيها من قبل هذه الدول التي لم تراعِ في استعمارها حقوق هذه الأقليات المدعاة فنالها من ظلم المستعمرين وتحكمهم ما نال جيرانها من الأكثريات.
|