أما الأحداث الأخيرة:
لقد تقدمت حكومة أردوغان بإصلاحات دستورية أبرزها انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، وهي تدرك أن حظ علمانيي الجيش الإنجليز (الخط الأتاتوركي) في فوز رئيس منهم بالانتخاب من الشعب حظ ضعيف، في الوقت الذي يعتبر الجيش هذا المنصب مهماً ورمزاً له.  هذا مع أن الإصلاحات الدستورية ليست مقتصرةً على انتخاب الرئيس.
لقد وجد الجيش في هذه الخطوة مقتلاً له، ولأن قدرة الجيش على تغيير الحكومات بالانقلاب قد تضاءلت وذلك بسبب أن أمريكا والحكومة قد شحنوا الأجواء بـ«الديمقراطية» و«نبذ الانقلابات»، واستغلوا أجواء مباحثات الاتحاد الأوروبي والحريات وحقوق الإنسان ... ما ساعد في جعل الظروف تمنع أو تحد من الانقلابات العسكرية ...، نقول لأن قدرة الجيش على الانقلاب تضاءلت، لذلك عمد الجيش إلى تفجير الأوضاع أمنياً، أي بافتعال مقدمات لأعمال عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني ...
وهكذا جاءت الأحداث الثلاثة: مقتل 12 شخصاً، ثم تلاه مقتل 13، وأخيراً في 21/10 قتل 17 وجرح 16 واختطاف 10.  إن المتدبر لكيفية وقوع هذه الأحداث يتبين أن الجيش له يد في الأمر لتصعيد الأعمال العسكرية:
أما الحادث الأول فقد تم إطلاق نار من أسلحة آلية على حافلة صغيرة كانت تقل عدداً من حراس القرى وذويهم وكانت قد أسفرت العملية عن مقتل 12 شخصاً، وكان من المستغرب أنَّ هؤلاء الحراس كانوا يتجولون غير مسلحين بخـلاف المعـتاد من أنهم لا يتجولون إلا وهم مسلحون، ما يشير إلى أن الذين أرسلوهم كانوا يخططون ليكون هؤلاء الحراس ضحايا!
وأما الحادث الثاني، فقد وقع بعد فترة قصيرة في المنطقة ذاتها (مدينة شيرناق)، وقد قتل فيه 13 عسكرياً، على الرغم من أن العسكر لا يتحركون دون حماية وآليات ومعدات قتالية، إلا أنهم في هذا الحادث كانوا وحيدين وفي منطقة مكشوفة ما أدى إلى مقتلهم جميعاً وإلى عدم تضرر أيٍ من المهاجمين، وهم كذلك كانوا ضحايا!
ثم كان الحادث الأخير في منطقة حقاري صباح 21/10 حيث كان أربعون جندياً يتحركون معاً في منطقة كذلك مكشوفة دون حماية، وقد تمت مهاجمتهم فقتل منهم 17 وجرح 16 واختطف الباقي!
وكلها تدل على أن هذه الأحداث مفتلعة لتفجير الأوضاع من أجل أهداف ثلاثة: صرف السير الجدي في إجراءات الإصلاحات الدستورية، إحراج الحكومة في التصدي لحزب العمال عسكرياً لأن أمريكا هي المحتلة للعراق مع ما هي عليه العلاقات بين الحكومة التركية وأمريكا، ثم إظهار الحكومة أمام الناس والرأي العام على أنها لا تعبأ بدماء (المواطنين).
وهكذا بدأ الجيش بالتصعيد، وكان يتوقع أن تتلكأ الحكومة في إعطاء الإذن ولا تصدره، ولكن الحكومة نقلت الموضوع من العمل العسكري إلى العمل السياسي، فاجتمعت وقررت التدخل إذا لزم وعرضت على البرلمان، ووافق البرلمان وأعاد القرار إلى الحكومة لتقرر في الوقت المناسب! ونشطت المحادثات مع دول الجوار ... وكانت الخاتمة زيارة أردوغان المتوقعة إلى واشنطن أول الشهر القادم لوضع الخطوط النهائية للتصرف حيال الأزمة.
ويمكن القول إن زخم تفجير العمل العسكري قد تم (تنفيسه) بالأعمال السياسية التي قامت بها الحكومة، وقد تلجأ بترتيب مع أمريكا والاتفاق مع العراق إلى أعمال محدودة تظهر نجاحاً للحكومة دون الهجوم العسكري الشامل داخل العراق، وبالتالي لا تحرَج ولا تحرَج الحكومة أمام الشعب التركي بالقول إنها لا تهتم بالدم التركي، وفي الوقت نفسه تحد من الهجوم العسكري المتصاعد الذي يريد الجيش تفجيره.
والخلاصة:
1 -  إن الجيش الموالي للإنجليز، وقد تعذر عليه عمل الانقلابات كالسابق، فهو يحاول زعزعة حكومة حزب العدالة الموالي لأمريكا، بتفجير الأزمات عسكرياً بتحريك جناح حزب العمال الكردستاني، وذلك لإيجاد أزمات متلاحقة للحكومة داخلياً بإظهار الحكومة غير مهتمة بدماء الجيش واتساع نطاق الإرهاب، وكذلك خارجياً وبخاصة إحراج أمريكا والحكومة وإجبارهما على التنازل للجيش أو على الأقل عدم الاستمرار في القرارات (الديمقراطية) لإنقاص سلطة الجيش.
2 -  الأزمة العسكرية الحالية مع حزب العمال الكردستاني هي في هذا السياق، وقد استطاعت الحكومة نقل الصراع من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي وذلك بنقله إلى مجلس النواب ثم موافقة النواب وجعل القرار بيد الحكومة حسب الظروف المناسبة.  وكذلك بنقل الموضوع للتفاوض مع الجوار، ما يفقد عملية هجوم الجيش زخمها.
3 -  إن أمريكا تـدرك مـا يـرمـي إليه الجيش، وكذلك تدركه حكومة تركيا، ولهذا فإن زيارة أردوغان لواشنطن في بداية الشهر القادم هي لرسم الخـطـط المناسـبـة لإفقاد مخطط الجيش تحقيق هدفه بإحراج الحكومة أمام الشعب التركي أو زعزعتها.
4 -  المتوقع بنتيجة الزيارة أن توافق حكومة العراق على إعطاء ضمانات للحكومة التركية كتسليم بعض الأشخاص أو مراقبة الدول متعددة الجنسية للحدود أو إعلان حزب العمال إلقاء سلاحه .. وقد تلزم عملية عسكرية محدودة لا تؤدي لما يعرف دولياً باختراق احتلالي لشمال العراق.. أي ترتيبات تظهر حكومة أردوغان أنها انتصرت وأنها لم تساوم على دماء الجند ولم تتساهل مع الإرهاب بل حققت النصر المؤزر!
وبالتالي لا يكون الجيش قد حقق هدفه بتفجير الأوضاع وزعزعة الحكومة أو إسقاطها.
ومع ذلك فإن المشكلة ستبقلى قائمة بين الجيش وبين الحكومة إلى أن يهيمن أحدهما على السلطة حيث إن الحكم لا يدار برأسين في أي بلد إلا وتستمر الأزمات.
5 -  إن الجيش في السابق كان هو القوة الفعلية سياسياً وعسكرياً، ولذلك كان يقوم بتغيير الحكومات عند أي تجاوز للخطوط الحمراء بل الصفراء التي يراها الجيش، واليوم نتيجة الجقائق الواقعية المتغيرة، فهو يكتفي بتفجير الأزمات لإضعاف الحكومات غير المرغوبة له، وهو لن يكف عن ذلك حتى لو فشل في إيجاد هجوم شامل داخل العراق فسيغتنم أي فرصة مناسبة ليعيد الكرة مرةً أخرى.
وهكذا فلأن الصراع تديره دول كبرى في الخارج (تتناغم) معها قوى داخلية، فإن قوة هذه الأطراف المتصارعة سياسياً ومادياً هي التي تتحكم في سير سفينة البلاد خلال الأمواج المتلاطمة هبوطاً وصعوداً، ويصعب في المدى المنظور أن يسيطر على قيادة السفينة ربَّان واحد بشكل كامل.
لذلك فإن الأزمات ستبقى تتلاحق وفق الظروف المتاحة لأي من هذه الأطراف.
أما السؤال عن قرار لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأمريكي الذي يعرّف ما حدث سنة 1915 للأرمن على أنه (إبادة جماعية)، فصحيح أنه قد جاء في وقت الأزمة التي افتعلها الجيش التركي لإحراج الحكومة مع أمريكا المحتلة للعراق، وهو يعرف علاقة الحكومة بأمريكا.  وصحيح أن هذا القرار قد صدر في وقت غير مناسب للحكومة التركية.
ولكن بالتدقيق في الموضوع يتبين ما يلي:
1 -  معروف عند الدول الغربية، وبخاصة أمريكا، أن ساستها الديمقراطيين والجمهوريين بعد منتصف السنة الثالثة لولاية الرئيس تبدأ (فضائحهم)، ومضايقات كل طرف للآخر تبدأ بالانتشار، ويتعمد الفريقان استغلال كل ما يمكنهم لإحراج الطرف الآخر.  وهذا واضح مثلاً في سياسة الديمقراطيين بالنسبة للعراق، فهم يضايقون الجمهوريين في مجلس النواب علماً بأنهم لو كانوا هم في الحكم لما اختلفوا كثيراً عن سياسة بوش في الأمور الأساسية.
وهكذا فهُمْ قد اعتادوا (المناكفة) الانتخابية في الفترات السابقة للانتخابات الرئاسية ابتداءً من سنة ونصف قبل نهاية ولاية الرئيس.
2 -  إن بيلوسي كانت قد وعدت اللوبي الأرمني أثناء انتخابات الكونغرس الأخيرة بإصدار هذا القانون.
3 -  إن هذا القرار يتعارض مع السياسة الخارجية الأمريكية ما دفع كافة وزراء خارجية أمريكا السابقين لإعداد رسالة مشتركة وجهوها لرئيسة المجلس نانسي بيلوسي بعدم عرض المشروع على مجلس النواب.  وأكثر ما يتعارض هو مع سياسة المحافظين الجدد (إدارة بوش)، فقد كان بوش خلال كلمته المتعلقة بهذا الأمر والتي ألقاها في 24 نيسان/أبريل المنصرم وهو اليوم الذي يصادف الذكرى السنوية لما يسمى “إبادة الأرمن” لم يصف ما حدث بـ “الإبادة الجماعية” (genocide) بل وصفه بـ(المحق - “التدمير” ...) (annihilation)، ذلك أن المحافظين الجدد كما جعلوا إطلاق الإبادة الكاملة بالحرق holocaust خاصاً باليهود لإدرار العطف عليهم كذلك حاولوا جعل الإبادة الجماعية genocide تطلق غالباً على اليهود للسبب ذاته ولا يطلقونها على غيرهم إلا قليلاً، ولهذا أطلق بوش في خطابه المذكور على ما حدث للأرمن كلمة annihilation وهي أدنى من الإبادة الجماعية.
4 -  لقد ظهر مفهوم “الإبادة الجماعية” وبخاصة بالحرق holocuast  على يد مستشار دائرة الدفاع الأميركية البولوني الأصل خلال الحرب العالمية الثانية. والمحافظون واليهود يرفضون إطلاق هذا الوصف على آخرين ويرفضون إخراجه من كونه وصفاً خاصاً باليهود. فالمجازر الأخرى يصنفونها تحت مضمار “جرائم ضد الإنسانية” أو حوادث تدميرية أو نحو ذلك.
5 -  وأخيراً فإن القرار غير ملزم وهو يحتاج لمصادقة بوش عليه، ولا يترتب عليه أية تداعيات حقوقية.  وكذلك فإن بيلوسي بعد أن كانت قد صرحت أثناء عرض مشروع القرار على اللجنة بأنها ستحيل القرار بعد اتخاذه من اللجنة إلى البرلمان بسرعة، عادت فصرحت بعد إقراره بأنها ستحيله للبرلمان في أواسط تشرين الثاني.
ويبدو أن بيلوسي تهدف إلى الغرض الانتخابي قبل كل شيء: ترضي الأرمن الذين وعدتهم خلال انتخابات الكونغرس الأخيرة، وتضايق إدارة بوش مع حكومة تركيا كما تضايقه في موضوع العراق بإيجاد أزمات له تؤثر على إضعاف فرصة الفوز للحزب الجمهوري.
ومع ذلك فإنه من غير المتوقع أن يؤثر هذا القرار في تأزيم العلاقة التركية الأميركية، فالخلاف بين الحكومتين يغلب عليه الود، ومثل هذه المناكفات و(الأزمات) لا تفسد للود قضيةً!