السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسأل الله أن يفتح على يديك قريباً إنه ولي ذلك والقادر عليه. سؤالي عن مفهوم التجديد الذي ورد في حديث الرسول ﷺ (إن الله يبعث على رأس كل سنة من يجدد لهذه الأمة دينها) أو كما قال ﷺ، وإذا كان مجدد العصر هو العالم الجليل تقي الدين النبهاني فهل انتهى التجديد بموته رحمه الله، أم أنه ما زال قائما بوجود الحزب الذي يحمل فكرته؟ وبارك الله فيك وجزاك خير الجزاء.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أولاً: إن الحديث الذي تسأل عنه هو الحديث الذي رواه أبو داود في سننه وغيره عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وهذا الحديث ينبغي أن يفهم في إطار المفاهيم الشرعية المقررة في الكتاب والسنة، وإليك شيئاً من ذلك:
1- مع نزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾، اكتمل الدين وتمت النعمة واستقر الأمر، ثم انقطع الوحي بعيد ذلك بوفاة النبي ﷺ، ولهذا فإن الدين في ذاته بوصفه وحياً من الله سبحانه اكتمل باكتمال الوحي، ولا مجال للزيادة فيه أو النقصان، وهو هو ما زال قائماً منذ أن أكمل الرسول ﷺ البلاغ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... وهذا أمر مستقر في أذهان المسلمين ونفوسهم، وهو من الحقائق الإسلامية التي لا مراء فيها.
2- لذلك لا يمكن أن يكون المراد بالحديث الشريف «مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، تجديد الدين ذاته بإضافة شيء إليه أو إنقاص شيء منه، أو تخصيص عمومه أو تقييد مطلقه... إلخ. لأنه بانقطاع الوحي أغلق باب الإضافة إلى الدين أو النسخ منه أو التخصيص أو التقييد...إلخ، حيث لا مجال شرعاً لحصول ذلك إلا بالوحي لأن الدين هو في حقيقته الوحي، أي ما أوحي به إلى النبي ﷺ. وما دام من غير الممكن أن يكون التجديد هو في الدين ذاته، فإنه ينبغي صرف التجديد إلى أمور أخرى غير ذلك.
3- الإسلام هو مبدأ، أي عقيدة ينبثق عنها نظام، فالإسلام هو مجموعة من الأفكار والأحكام، وهي مأخوذة كلها من الكتاب والسنة ومما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس، وإجماع الصحابة والقياس راجعان إلى الكتاب والسنة... وحيث إنه لا يتصور التجديد شرعاً في أفكار الإسلام وأحكامه في ذاتها، فلا بد أن يكون التجديد في أمر ما يتعلق بها أي يتعلق بأفكار الإسلام وأحكامه. وبالتدقيق في الأمر يظهر أن هناك جانبين أساسيين يتعلقان بأفكار الإسلام وأحكامه، وهما جانب الفهم وجانب التطبيق... أي الجانب البشري المتعلق بالإسلام، فالمسلمون هم الذين يفهمون الإسلام ويطبقونه، وقد يعتري فهمهم للإسلام وتطبيقه غبش أو التباس أو خلل أو إساءة أو تقصير... وقد يختل فهمهم أو فهم بعضهم للإسلام فيضيف للإسلام ما ليس منه وهو يظنه منه، أو ينقص من الإسلام شيئاً فلا يلتفت إليه مع أنه من الدين...
4- وهكذا فقد يطرأ على فهم المسلمين للإسلام وتطبيقهم له أمور غير منسجمة مع الإسلام، وذلك مثل:
أ- جعل شيء من الإسلام وهو ليس منه أو إنقاص شيء من الإسلام مع أنه منه، ويندرج تحت ذلك البدع.
ب- غبش أو التباس في فهم الإسلام بوصفه مبدأً ونظاماً للحياة، أو في فهم بعض أفكاره أو بعض أحكامه.
ج- إساءة تطبيق الإسلام فردياً أو جماعياً أو من قبل الحاكم. أو خلط الإسلام مع غيره في التطبيق.
5- ولكي يعود فهم الدين أو تطبيقه إلى ما ينبغي أن يكون عليه وفق الوحي أي ليعود فهم الدين من قبل المسلمين أو تطبيقهم له وفق أفكار الإسلام وأحكامه دون غبش أو خلل أو زيادة أو نقص أو إساءة...إلخ، فإن الله سبحانه يسخر من المسلمين على رأس كل مائة عام من يعمل على تجديد الدين أي إعادة الدين إلى هيأته التي كان عليها من الصفاء والنقاء والوضوح أو التطبيق الصحيح غير المشوب بإساءة ولا خلط... أي يعيد فهم الدين أو تطبيقه إلى حاله الأول عند مبعث النبي ﷺ بنقائه وصفائه ووضوحه، فيزيل عنه ما عساه أن يكون قد علق به مما هو ليس منه، ويبرز ما عساه أن يكون قد خفي من أفكاره وأحكامه، ويوضح ما عساه أن يكون قد أصابه غبش في الفهم، ويعمل على تطبيقه بتمامه وكماله إن كان من أهل الحكم... وقد كان اختيار لفظ (يجدد) لتوصيف ما يحصل ذا دلالة معبرة لأنه لا يعني الإتيان بجديد بل يعني تصيير الشيء جديداً أي إعادته لما كان عليه في أول أمره، وقد بينت المعاجم اللغوية معنى جدد على هذا النحو: القاموس المحيط: (جَدَّ يَجِدُّ، فهو جَدِيدٌ. وأَجَدَّهُ وجَدَّدَهُ واسْتَجَدَّهُ: صَيَّرَهُ جديداً فتَجَدَّدَ.)، الصحاح في اللغة: (وتجدَّدَ الشيء: صار جَديداً. وأَجَدَّهُ، واسْتَجَدَّهُ، وجَدَّدَهُ، أي صيَّره جديداً.)، لسان العرب: (وأَجَدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صَيَّرَهُ جديداً)، فهذا اللفظ (يجدد) في الحديث الشريف يعطي بدقة المدلول الصحيح وهو إعادة الإسلام إلى ما كان عليه في أول أمره ولا يعني تغيير الدين وتبديله.
6- وقد تحدث العلماء عن معنى التجديد المراد في الحديث الشريف، وأنقل بعضاً مما ذكروه:
- جاء في عون المعبود:
[... (مَنْ يُجَدِّد): مَفْعُول يَبْعَث (لَهَا): أَيْ لِهَذِهِ الْأُمَّة (دِينهَا): أَيْ يُبَيِّن السُّنَّة مِنْ الْبِدْعَة وَيُكْثِر الْعِلْم وَيَنْصُر أَهْله وَيَكْسِر أَهْل الْبِدْعَة وَيُذِلّهُمْ. قَالُوا: وَلَا يَكُون إِلَّا عَالِماً بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّة الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة. قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فِي فَتْح الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير. وَقَالَ الْعَلْقَمِيّ فِي شَرْحه. مَعْنَى التَّجْدِيد إِحْيَاء مَا انْدَرَسَ مِنْ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْأَمْر بِمُقْتَضَاهُمَا...
قَدْ عَرَفْت مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَاد مِنْ التَّجْدِيد إِحْيَاء مَا انْدَرَسَ مِنْ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْأَمْر بِمُقْتَضَاهُمَا وَإِمَاتَة مَا ظَهَرَ مِنْ الْبِدَع وَالْمُحْدَثَات. قَالَ فِي مَجَالِس الْأَبْرَار: وَالْمُرَاد مِنْ تَجْدِيد الدِّين لِلْأُمَّةِ إِحْيَاء مَا انْدَرَسَ مِنْ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْأَمْر بِمُقْتَضَاهُمَا، وَقَالَ فِيهِ: وَلَا يُعْلَم ذَلِكَ الْمُجَدِّد إِلَّا بِغَلَبَةِ الظَّنّ مِمَّنْ عَاصَرَهُ مِنْ الْعُلَمَاء بِقَرَائِن أَحْوَاله وَالِانْتِفَاع بِعِلْمِهِ، إِذْ الْمُجَدِّد لِلدِّينِ لَا بُدّ أَنْ يَكُون عَالِماً بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّة الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة قَاصِراً لِلسُّنَّة، قَامِعاً لِلْبِدْعَةِ، وَأَنْ يَعُمّ عِلْمه أَهْل زَمَانه، وَإِنَّمَا كَانَ التَّجْدِيد عَلَى رَأْس كُلّ مِائَة سُنَّة لِانْخِرَامِ الْعُلَمَاء فِيهِ غَالِباً، وَانْدِرَاس السُّنَن وَظُهُور الْبِدَع، فَيُحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى تَجْدِيد الدِّين، فَيَأْتِي اللَّه تَعَالَى مِنْ الْخَلْق بِعِوَضٍ مِنْ السَّلَف إِمَّا وَاحِداً أَوْ مُتَعَدِّداً انْتَهَى. وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاة: أَيْ يُبَيِّن السُّنَّة مِنْ الْبِدْعَة وَيُكْثِر الْعِلْم وَيُعِزّ أَهْله وَيَقْمَع الْبِدْعَة وَيَكْسِر أَهْلهَا. انْتَهَى.
فَظَهَرَ أَنَّ الْمُجَدِّد لَا يَكُون إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِماً بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّة وَمَعَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ عَزْمه وَهِمَّته آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار إِحْيَاء السُّنَن وَنَشْرهَا وَنَصْر صَاحِبهَا وَإِمَاتَة الْبِدَع وَمُحْدَثَات الْأُمُور وَمَحْوهَا وَكَسْر أَهْلهَا بِاللِّسَانِ أَوْ تَصْنِيف الْكُتُب وَالتَّدْرِيس أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَكُون كَذَلِكَ لَا يَكُون مُجَدِّداً الْبَتَّة وَإِنْ كَانَ عَالِماً بِالْعُلُومِ مَشْهُوراً بَيْن النَّاس، مَرْجِعاً لَهُمْ...].
- جاء في مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح:
[...(من يجدد) مفعول “يبعث” (لها) أي لهذه الأمة (دينها) المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير ذلك، ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة؛ لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن، وظهور البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد الدين، فيأتي الله من الخلق بعوض من السلف إما واحدا أو متعدداً، كذا في مجالس الأبرار...].
ثانياً: بالنسبة للمجددين على العموم وبالنسبة لمجدد القرن الرابع عشر الهجري فقد أجبنا على سؤال حول هذا الأمر في 23 حزيران 2013م بما يلي:
[السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله بك شيخنا وعجّل بالنصر على يديك... ونفعنا الله بعلمك،
من الأحاديث الصحيحة المشهورة، ما يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم/599
والسؤال هو: ما معنى الحديث؟ وهل كلمة “من” في الحديث تفيد أنّ المجدد فرد أم جماعة؟ وهل يمكن حصرهم في القرون السابقة؟ وجزاكم الله خير
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم، الحديث صحيح، وفيه مسائل خمس:
1- من أي تاريخ تبدأ المئة؟ هل من مولد الرسول ﷺ، أو من البعثة، أو من الهجرة، أو من وفاته ﷺ؟
2- هل “رأس كل مئة” تعني في أوائل كل مئة، أو خلال كل مئة، أو في أواخر كل مئة؟
3- هل كلمة “من” تعني أحد الناس، أو تعني جماعة تجدد للناس دينهم؟
4- هل وردت روايات لها وجه صحيح في تعداد الرجال المجددين خلال مئات السنين الماضية؟
5- وهل يمكن أن نعرف في المئة الرابعة عشرة التي انتهت في 30 ذي الحجة 1399هـ من هو المجدد للناس دينهم؟
وسأحاول ما استطعت أن أذكر الراجح لدي في هذه المسائل دون الخوض والغوص في نقاط الاختلاف، فأقول وبالله التوفيق، وهو الهادي سبحانه إلى سواء السبيل:
1- من أي تاريخ تبدأ المئة؟
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ “وَاخْتُلِفَ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ أَوِ الْبَعْثَةِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوِ الْوَفَاةِ...” والراجح لدي أنه اعتباراً من الهجرة، فهي الحدث الذي عزّ به الإسلام والمسلمون بإقامة دولته، ولهذا عندما جمع عمر الصحابة للاتفاق على بداية التاريخ اعتمدوا الهجرة. أخرج الطبري في تاريخه قال:
“حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ: من أي يوم نكتب؟ فقال علي: من يوم هاجر رسول الله ﷺ، وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ، فَفَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال أبو جعفر: وقد اعتبروا السنة الهجرية الأولى من محرم تلك السنة أي قبل مقدم رسول الله ﷺ إلى المدينة بشهرين وأيام حيث كان مقدم رسول الله ﷺ في الثاني عشر من ربيع الأول”.
وعليه فقد رجّحت أن تُعدّ السنين المئات من التاريخ الهجري الذي اعتمده الصحابة رضوان الله عليهم.
2- أما رأس المئة فالراجح هو آخرها، أي أن المجدد يكون في أواخر المئة عالماً مشهوراً تقياً نقيا، وتكون وفاته في أواخرها وليس في نصفها أو خلالها. أما لماذا رجحت ذلك فللأسباب التالية:
أ- ثبت بروايات صحيحة أنهم عدّوا عمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى، وهو رضي الله عنه توفي سنة 101هـ وعمره أربعون سنة، وعدّوا الشافعي على رأس المئة الثانية وهو توفي سنة 204هـ وعمره أربع وخمسون سنة. وإذا أُخذ تفسير “رأس كل مئة سنة” بغير هذا، أي فُسر بأول المئة، فلا يكون عمر بن عبد العزيز مجدد المئة الأولى لأنه ولد سنة 61هـ، ولا يكون الشافعي مجدد المئة الثانية لأنه ولد سنة 150هـ. وهذا يعني أن “رأس كل مئة” الواردة في الحديث تعني أواخر المئة وليس أولها، فيكون قد ولد خلالها ثم أصبح عالماً مشهوراً مجدداً أواخرها، وتوفي أواخرها.
ب- أما الدليل على أن عمر بن عبد العزيز هو مجدد المئة الأولى والشافعي مجدد الثانية فهو ما اشتهر عند علماء الأمة وأئمتها، فقد اتفق الزُّهْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ وَتُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وقد قَالَ الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس قال أبو بكر الْبَزَّارُ سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيَّ يَقُولُ كُنْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَجَرَى ذِكْرُ الشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُ أَحْمَدَ يَرْفَعُهُ وَقَالَ روي عن النبي يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَيِّضُ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ قَالَ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُخْرَى.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبَي سَعِيدٍ الْفِرْيَابِيِّ قَالَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ رَأْسِ مِائَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ الناس السنن وينفي عن النبي الْكَذِبَ فَنَظَرْنَا فَإِذَا فِي رَأْسِ الْمِائَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ الشَّافِعِيُّ.
وقال ابن عَدِيٍّ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ كَانَ فِي الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي الثَّانِيَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ.
وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي الْوَلِيدِ، قال: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ يَمْدَحُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ الْخَوْلَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» فَأَبْشِرْ أَيُّهَا الْقَاضِي، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثَ عَلَى رَأْسِ الْمِأَتَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ...
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ مَشْهُوراً فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
ج- وقد يقال إن رأس الشيء في اللغة يعني أوله، فكيف نرجح أن رأس كل مئة آخرها وليس أولها؟ والجواب أن رأس الشيء كما هو في اللغة أول الشيء كذلك هو آخره. قَالَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ رَأْسُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَقِيلَ آخِرُهُ. وقال في لسان العرب خرج الضب مرائسا: استبق برأسه من جحره وربما ذنّب، أي خرج بأوله أو بآخره، وعليه فإن رأس الشيء كما ورد بمعنى أوله في اللغة، ورد كذلك بمعنى طرفه سواء أكان أوله أو آخره، ونحتاج إلى قرينة ترجح المعنى المقصود في الحديث لرأس المئة أهو أولها أم آخرها، وهذه القرائن موجودة في الروايات السابقة باعتبار عمر بن عبد العزيز مجدد المئة الأولى وهو قد توفي في 101هـ، واعتبار الشافعي مجدد المئة الثانية وهو قد توفي في 204، كل هذا يرجح أن المعنى في الحديث هو أواخر المئة وليس أولها.
وبناء على ما سبق فإني أرجح أن معنى “رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ” الواردة في الحديث هو أواخر كل مئة.
3- أما هل “من” تعني واحداً أو جماعة، فإن الحديث روي «يبعث لهذه الأمة... من يجدد لها دينها»، ولو كانت “من” تدل على الجمع لكان الفعل مجموعاً أي “من يجددون”، ولكن ورد الفعل بالإفراد “يجدد”، ومع أن دلالة “من” فيها معنى الجمع أيضا حتى وإن كان الفعل بعدها مفرداً، إلا أني أرجح أنها هنا للمفرد بقرينة يجدد، وأقول أرجح لأن الدلالة هنا بالإفراد ليست قاطعة حتى وإن كان الفعل بعدها مفردا، ولذلك فإن هناك من فسر “من” بدلالة الجماعة، وعددوا في رواياتهم جماعات من العلماء في كل مئة، ولكنه قول مرجوح كما ذكرت آنفاً.
وعليه فالراجح لدي أن “من” تدل على الواحد، أي أن المجدد في الحديث هو رجل واحد عالم تقي نقي...
4- أما تعداد أسماء المجددين في المئات السابقة، فقد وردت روايات في ذلك وأشهرها أرجوزة السيوطي حيث عدد فيها للمئة التاسعة، وسأل الله سبحانه أن يكون هو مجدد التاسعة، وأنقل لك بعض ما في أرجوزته:
“فَكَانَ عِنْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرْ خَلِيفَةُ الْعَدْلِ بِإِجْمَاعٍ وَقَرْ...
وَالشَّافِعِيُّ كَانَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الْعُلُومِ السَّامِيَةِ...
وَالْخَامِسُ الْحَبْرُ هُوَ الْغَزَالِي وَعَدّهُ مَا فِيهِ مِنْ جِدَالِ...
وَالسَّابِعُ الرَّاقِي إلى المراقي بن دَقِيقِ الْعِيدِ بِاتِّفَاقِ...
وَهَذِهِ تَاسِعَةُ الْمِئِينَ قَدْ أَتَتْ وَلَا يُخْلَفُ مَا الْهَادِي وَعَدْ وَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّنِي الْمُجَدِّدُ فِيهَا فَفَضْلُ اللَّهِ لَيْسَ يُجْحَدُ...
وهناك أقوال أخرى تستمر إلى ما بعد ذلك.
5- وهل يمكن أن نعرف في المئة الرابعة عشرة التي انتهت في 30 ذي الحجة 1399هـ من هو المجدد للناس دينهم؟
لقد لفت نظري ما اشتهر عند العلماء المعتبرين من أن رأس السنة هو أواخرها، فعمر بن عبد العزيز ولد في 61 للهجرة وتوفي على رأس المئة الأولى 101هـ، والشافعي ولد في 150 للهجرة وتوفي على رأس المئة الثانية 104هـ... أي أن كل واحد منهما قد ولد خلال المئة واشتهر في أواخرها وتوفي أواخرها، وكما قلت فإني أرجح هذا التفسير لما اشتهر بين العلماء المعتبرين أن عمر بن عبد العزيز هو المجدد على رأس المئة الأولى، والشافعي هو المجدد على رأس المئة الثانية. وبناء عليه فإني أرجح أن العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله هو المجدد على رأس المئة الرابعة عشرة، فهو قد ولد 1332هـ واشتهر أواخر هذه المئة الرابعة عشرة، وبخاصة عندما أسس حزب التحرير في جمادى الثانية سنة 1372هـ، وتوفي أواخرها 1398هـ، وكان لدعوته المسلمين إلى القضية المصيرية، استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة، أثر كبير في حياتهم وفي جدهم واجتهادهم، حتى أصبحت الخلافة اليوم مطلباً عاماً للمسلمين، فرحم الله أبا إبراهيم، ورحم أخاه أبا يوسف من بعده وحشرهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
هذا ما أرجحه يا أخي أبا مؤمن، والله أعلم بالصواب، وهو سبحانه عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.] انتهى الجواب السابق
ثالثاً: أما بالنسبة لتساؤلك: (إذا كان مجدد العصر هو العالم الجليل تقي الدين النبهاني فهل انتهى التجديد بموته رحمه الله أم أنه ما زال قائما بوجود الحزب الذي يحمل فكرته؟)، فالجواب على ذلك أن عملية التجديد وفق ما وضحناه في الأعلى يقوم بها (رجل واحد عالم تقي نقي...)، وبوفاته ينتهي موضوع التجديد، ولكن ذلك لا يعني انتهاء أثر التجديد، بل يبقى للتجديد أثر على المسلمين وعلى الأجيال القادمة بعد اكتمال التجديد إلى أن يطرأ خلل في الفهم أو التطبيق مع مرور الزمن فيبعث الله سبحانه في نهاية القرن الذي يليه مرة أخرى من يجدد للأمة دينها، فحسب الحديث يبعث الله على رأس كل مئة عام من يجدد للأمة دينها، أي على رأس المئة الخامسة عشرة على النحو المبين تفسيره أعلاه بإذن الله. والله أعلم من سيكون..
هذا ما أرجحه في هذه المسألة والله أعلم وأحكم.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
رابط الجواب من المكتب الإعلامي المركزي
رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك: