|
إنّ الاغتيالات المتواصلة في لبنان، لها سبب مباشر هو: استمرار الصراع الدولي على النفوذ في لبنان، والذي هو فصل من فصول الصراع على النفوذ في المنطقة؛ وهناك عوامل تمهّد لعمليّات الاغتيال تلك، وتؤسّس لها، وتساهم في استمرارها، وعادة ما قادت تلك الأعمال إلى الأحداث - الفتن، التي واكبت بدايات كيان لبنان الذي أنشأته فرنسا عام 1920م، واستمرّت في محطّات عمره، وآخرها الحرب - الفتنة، الممتدة بين عامي 1975 و1990. تلك الأحداث - الفتن، جعلت أهل لبنان في معاناة دائمة، يذوقون ويلات الحروب وتبعاتها، من قتل، وتهجير، وإفقار، وخوف على المصير، وجعلتهم، وخاصة عنصر الشباب فيهم، في بحث دائم عن بلد يجدون طعم الاستقرار والحياة الكريمة فيه؛ فكانت مشكلة الهجرة، خاصّة إلى دول الغرب، التي تفرّغ البلاد من طاقاتها الفاعلة، وأدمغتها المبدعة.
والنّاظر إلى سياق الأحداث، والمتمعّن في سبب تجدّدها كلّما خَبَتْ، وسبب استعارها كلّما هَدَأت، يجد أنّه يكمن في عاملين أساسيين، يمنعان الاستقرار في لبنان:
الأوّل: الطائفيّة، التي على أساسها أُرسي النظام السياسي في لبنان، وهو ما يجعل البلد في حالة تناقضات دائمة، وصراع مستمرّ على النفوذ، لتعزيز موقع هذه الطائفة أو تلك، ولتحقيق المكاسب السياسيّة أو الماليّة لها؛ وهذا ما سمح بدخول الفساد إلى الطبقة السياسيّة، التي احتمت بغطائها الطائفي، فمارست شتّى أنواع الإفساد المالي والسياسي، ما أوجد حالةَ قلق وعدم استقرار دائمين، ما يلبثان أن يتحوّلا إلى حالة اضطراب، تنفذ منه أفعى الفتنة، لتعيث فساداً في البلاد والعباد.
الثاني: تدخّل الدّول الغربية الطامعة، في الشّأن الداخلي في لبنان، والذي سمحت به، وساعدت عليه، وأوجدت له مبرّراته، التناقضات الطائفية. فمنذ فتنة الجبل عام 1860م، بدأ التدخّل الغربي السافر، بحجّة حماية هذه الطائفة أو تلك، واستمرّ ذلك التدخّل، بعد أن احتلّت جيوش الغرب، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، بلاد المسلمين، التي كانت تشكّل الرقعة الكبرى منها حينئذ، دولة الخلافة العثمانية، ثمّ قسّمتها إلى كيانات ضعيفة، وفق اتّفاقية سايكس-بيكو الشهيرة، عام 1916م، ووضعت على رأس تلك الكيانات (الدول)، أنظمة حاكمة عميلة لها، فكانت السلطة في لبنان، منذ أُنشئ عام 1920م، وما بعد ذلك فيما سُمّيَ بعهد الاستقلال عام 1943م، يعيَّن رؤساؤها إمّا بقرار دولي، أو بقرار دوليّ - إقليمي، ثمّ يتمّ إخراج ذلك التعيين، بالانتخابات والتّصويت. هذا التدخّل في السّلطة جعل من لبنان أرضاً خصبة لصراع النفوذ، الذي لا يلبث بدوره أن يتحوّل إلى فتنة داخليّة، أدواتها: عملاء تلك الدول في الداخل، والحكّام العملاء في المنطقة، الذين تحرّكهم تلك الدول، ليساهموا في صراع النفوذ الدائر في لبنان، بوصفه جزءاً من صراع النفوذ في المنطقة، المستمرّ منذ دبّ الضعف في دولة الخلافة العثمانية، ثمّ بعد سقوطها إبّان الحرب العالمية الأولى.
إنّ مسلسل الاغتيالات في لبنان، والانقسام بين شرائح المجتمع فيه، يهدّدان بإشعال فتيل الفتنة من جديد، ما يوجب على الحكماء وأهل الرأي، تدارك الأمر قبل تفاقمه، لتجنيب البلاد والعباد، ويلات ما زالت ذكراها الأليمة ماثلة في الأذهان.
وإنّ مشكلة لبنان، هي جزء من مشكلة تعاني منها المنطقة بأسْرها، من العراق، إلى فلسطين، إلى سائر بلاد المسلمين؛ مشكلة صراع نفوذ دول الغرب الطامعة في بلادنا، وتكالبها على الأمّة. إنّ تلك المشكلة المزمنة، التي أشعلت الحرائق في بلاد المسلمين، ومنها الاغتيالات الأخيرة في لبنان، لها حلٌّ واحد، هو إذابة الكيانات الضعيفة التي أقامها الاستعمار، وإعادة جمعها في كيان سياسي كبير واحد، يُطَبَّق نظام الإسلام فيه، لينعم رعاياه، جميع رعاياه، مسلمين وغير مسلمين، بالطمأنينة والاستقرار اللذين يؤمّنهما عدل الإسلام ورحمته، فيُقطع دابر الفتن، وتُمنع تدخّلات أعداء الأمّة. إنّها دولة ملأت أخبارها جنبات التاريخ، دولةٌ تقوم بتضافر جهود الأمّة، بالعمل مع العاملين لإقامتها، إنّها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوّة، وما ذلك على الله بعزيز.
قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
|