الآن، وقد حل موسم الانتخابات، يجد المسلمون أنفسهم فجأة موضع اهتمام السياسيين الذين يطمعون في أصواتهم؛ يطرق المرشّحون ومؤيدوهم الأبواب ”للاستماع” إلى هموم الناخبين، كما يجري تأخير إلقاء خطب يوم الجمعة لإعطاء الفرصة للسياسيين غير المسلمين لإلقاء مواعظهم العلمانية التي تعد بتحسين الظروف الحياتية للجالية الإسلامية.
يقابل المسلمون المدركون لمثل هذه الوسائل نشاطات مثل هؤلاء السياسيين عموماً بما تستحق من السخرية، وقد خابت كثيراً آمال الذين صوّتوا في الماضي لمرشّحين مسلمين عندما اكتشفوا أن هؤلاء المرشحين قلّما دعوا إلى سياسة تهتم بأمر الجالية الإسلامية، كما أن الذين صوّتوا أيضاً لصالح أحزاب ما يسمى ”بأخف الضررين” وجدوا أن تلك الأحزاب تزداد عداوة للإسلام والمسلمين في بريطانيا وخارجها، وعلى الرغم من هذا السجل المروِّع يجد المسلمون أنفسهم اليوم تحت ضغط متزايد للمشاركة في العملية السياسية الرسمية.
إن حقيقة العملية الديمقراطية هي أنّها مُصمَّمة لضمان الهيمنة المستمرة لمصالح النخبة الرسمية؛ فهم لا يريدون رؤية برنامج عمل إسلامي يحل محلّ هيمنتهم، لذلك يعملون لمنع أيّ شيء يمكن أن يؤدّي ولو إلى مجرد متنفس قليل للدعوة الإسلامية. وكان قد جرى تشجيع المسلمين للمشاركة في إدارة شؤون المدارس الحكومية (التي يتعلم فيها أولادهم) في المملكة المتحدة، ليجدوا أنفسهم مؤخراً عرضة للهجوم بتهمة محاولة ”أسلمة” تلك المدارس!
ولكن ما هو أسوأ من الفشل الذريع في تحقيق أيّ شيء ذي قيمة من خلال العملية السياسية، هو الحجج الشرعية المزيّفة التي تروّج بشدّة من قبل مختلف الجهات لتبرير، بل في بعض الحالات لإلزام المسلمين بالمشاركة المتزايدة في النظام الديمقراطي العلماني.
يقال للمسلمين بأن الاحتشاد لهزيمة السياسيين الأكثر سوءاً واجب شرعي كي لا يصل للسلطة من هم أشدّ ضرراً، كما يقال لنا بأن الإسلام يحثّنا على طلب المصلحة حيثما وجدت، وبأي وسيلة ممكنة. والدراسة الدقيقة لهذه الحجج تكشف ضعف الأسس التي تبنى عليها بل ومناقضتها لأصول الدين.
ولكن الخطر الحقيقي هو إضعاف تمسّك الجالية والأفراد بالشريعة، الذي ينتج من قبول مثل هذه التبريرات الواهية، وستكون خسارة المسلمين الحقيقية اليوم هي قبولهم بالمصالح كقاعدة في التشريع، وستكون الشريعة التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كشريعة خاتمة للبشرية جمعاء، وكشريعة بديلة وناسخة لكل ما قبلها من شرائع، ستصبح في هذه الحالة شريعة تقررها مصالح المسلمين، حسبما يرونها. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
وبذلك ستفرض شروط على التسليم إلى الله، الذي هو سبيل النجاح والفلاح، كما لو تقول: ”سنسلّم لله فقط إذا رأينا منفعة من القيام بذلك.” بينما الله تعالى ردّ على الذين عارضوا الغزوات العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مشيرين إلى عدم قدرتهم على رؤية الخير في تلك الغزوات بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
وبذلك يصبح الخوف من ضرر السياسيين “الأكثر سوءاً” عذراً لجَعْل حلال الله تعالى حراماً، ولا يصبح بعد ذلك التمسُّك بالإسلام بالرغم من المشقة أمراً يشجَّع المسلمون عليه كهدف نبيل؛ بل ستُروَّج بدلاً من ذلك المساومة على قبول الشر، على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتدح المرء الذي يتمسك بقوة بالإسلام بقوله: «يأتي زمانٌ على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار» (رواه الترمذي).
وكذلك على الرغم من أن الله تعالى أولى بالمخافة من مخافة أكثر مصائب الدنيا، حيث يقول سبحانه: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: 77]، فإننا بجَعْلنا المنافع الضيقة للجالية الإسلامية في بريطانيا أساساً للاحتشاد، نكون قد اخترنا رابطة قومية بريطانية وصفها الرسول بالعصبية بدلاً من رابطة الأخوة الإسلامية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية» (رواه أبو داود).
وفوق ذلك يقول بعض من يبررون المشاركة في النظم السياسية غير الإسلامية بأنّ النبي يوسف (عليه السلام) فعل ذلك من قبل، سبحان الله! إذا قبل المسلمون بهذه المقولة فهم يسمحون بتمييع العقيدة الإسلامية إلى الحدّ الذي نتّهم فيه نبي الله بطاعة الكفر، بينما هو مأمور بطاعة الله تعالى.
لا يمكن للمسلمين الواعين سياسياً أن يروا أن مصلحة الإسلام والمسلمين هي في ربط مصيرهم بسياسات الغالبية غير المسلمة حيث يقول سبحانه: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141].
كما أنهم حَذِرون من مخططات أولئك الذين ينكرون الحقّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 7- 9]
وهنا مكمن الخطر الحقيقي بل والجائزة الحقيقية لأولئك الذين يتآمرون ضدّ الإسلام ويأملون في عدم رؤيته أبداً يظهر ثانية كدولة وكنظام حياة في العالم؛ إذا قبل المسلمون بالحجج الواهية التي يعرضها أولئك الذين يُبرّرون المشاركة في هذا النظام السياسي غير الإسلامي فهم إذن يساومون على دينهم وعلى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي سوف لن يكون هذا الدين إذنْ النور الهادي الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهداية، بل سيسود الظلام والظلم بحيث لا يستطيع المسلمون تمييز الحق من الباطل؛ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ [الرعد: 16] ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1]
لذلك ندعو المسلمين في بريطانيا إلى الحذر من مثل هذه الحجج الواهية المزعومة بأنها “شرعية” التي تشجّع على الاشتراك في النظام السياسي العلماني. بل ندعو المسلمين للتعاون فيما بينهم في الخير القائم على التقوى، وإلى الالتزام بالشريعة المبنية على الأدلة الشرعية القوية.
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]
|